مقدمة:
لقد توجهت معظم الدول المصنعة و كذا بعض الدول العالم الثالث تدريجياً نحو وضع سياسات جادة و فعالة للعلوم و للتكنولوجيا, ساعية من وراء ذلك إلى تحديد الأهداف الحيوية للتنمية الوطنية و تجنيد الطاقات اللازمة لذلك, عمومية كانت أو خاصة مع تصور ذكي لكيفية تسخير الموارد و توزيعها.
كما يعتبر تنفيذ هذه السياسات شرطاً أساسياً لوضع البرامج الوطنية الخاصة بإنتاج المعارف ذات التطبيقات الاقتصادية و الاجتماعية حيز التطبيق. لذا فإن البحث العلمي و التطوير التكنولوجي يمثلان بالنسبة لأي بلد استثمار بالغ الأهمية كونهما يغطيان كل ميادين النشاط الأساسي بدءاً بالبحث الأساسي مروراً بالبحث التطبيقي للوصول إلى أفكار مبتكرة تثمن بدورها و تتحول إلى مؤسسات إنتاجية.
يلاحظ أن جلّ الدول المصنعة خصصت أموالاً طائلة للاستثمار في أنشطة البحث العلمي والتطوير التكنولوجي نظرا للرهانات المختلفة التي تحملها في طياتها. و من هذه الرهانات يمكن ذكر:
الرهان الثقافي:
إن السلطة السياسية بدأت تتفطن منذ مدة طويلة إلى أن إشعاع دولة ما, يأتي عن طريق نشر ثقافتها الناتجة عن طاقاتها العلمية المنتجة للمعارف, ضف إلى ذلك إن الاعتراف الدولي بمستوى الإنتاج العلمي لأي دولة يعتبر من المعطيات التي لا يستهان بها, هذا ما جعل أغلبية الدول الصناعية تخصص نسبة تتراوح ما بين %20 - %10 من مصاريف البحث و التطوير لبحث الأساسي المنفذ على مستوى الجامعات و بعض الهيئات المتخصصة أين يجري تكوين الباحثين و إنتاج المعارف الأساسية.
الرهان الاقتصادي و الاجتماعي:
إن للعلم و التكنولوجيا اليوم, رهانات اقتصادياً و اجتماعياً, إذ أن اكتساب المعارف العلمية و التقنية و إدماجها في عمليات الإنتاج و أصبحت سلاحاً لخوض المنافسة الدولية.
في هذا الصدد, إن البحث كمصدر للابتكار, يسمح بإدخال منتوجات جديدة في السوق ذات أهمية للصالح العام, إذ كانت المؤسسات الإنتاجية العنصر المحرك لعملية إدماج العلم و التكنولوجيا في الأنشطة الصناعية, فإن تنافسيتها تعتبر قضية الحكومات في كل الدول و جزءاً لا يتجزأ من سياستها التي وضعت بواسطتها الآليات المناسبة لتسهيل تحويل نتائج البحث إلى الصناعة و لحث المؤسسات المنتجة على تخصيص أكبر نسبة ممكنة من رقم أعمالها للبحث و التطوير.
في هذا الشأن, لم تتوقف الحكومات عند هذا الحد بل شرعت في إعداد برامج خاصة لدعم القطاعات الطلائعية لمساعدة الطاقات الصناعية على التحكم في الميادين الأساسية كالتسيير الآلي لأساليب الإنتاج عن طريق الحاسوب و الليزر و الأنماط الصناعية ابتداءاً من الهندسة الكيميائية إلى التكنولوجيا الحيوية.
الرهان الاستراتيجي و العسكري:
لم يتوصل البحث العلمي إلى إقتناء نظام اجتماعي و سياسي مهم إلا بعد أن اكتشفت الدول المعاصرة طابعه العملياتي (غني بالتطبيقات) و إمكانية أن يكون حليفاً موضوعيا للسلطة السياسية.
و هكذا أصبح للعلم و التكنولوجيا رهاناً استراتيجياً, حيث يعتبر التحكم في بعض المعارف العلمية والتقنية الأساسية أمراً حيوياً بالنسبة لبعض الأمم و ذلك لضمان أدوات استقلاليتها كفترة الاتصال والتحكم في الطاقة و المواد الأولية أو وضع أساليب جديدة للإنتاج. و ما تجنيد بعض الدول لتنفيذ برامج البحث في الميدان النووي, الفضاء, الاتصال, و أنظمة الليزر...إلخ إلا دليلاً على ذلك.
للبحث العلمي رهان آخر ذوا أهمية كبيرة و هو الرهان العسكري المتعلق بكل ما له صلة بالدفاع وأمن الدولة المعاصرة كأنظمة التسليح و الاتصال و مراقبة الأرض عن طريق الأقمار الصناعية و التي تتطلب وضع برامج كبيرة تسخر لها هيئات بحث مدنية و عسكرية.
بعد هذا الموجز القصير عن أهمية العلم و التكنولوجيا في تحقيق الرفاه الاجتماعي و الاقتصادي لكل دولة, خصصنا هذا البحث لعرض تجارب إدارة العلم و التكنولوجيا في:
- البلدان الاشتراكية سابقاً؛
- البلدان الرأسمالية؛
- اليابان؛
- البلدان الصناعية الجديدة؛
- البلدان الفقيرة.
بهدف استخلاص الدرس التي تعتبر كمنهاج لأي دولة أرادت تحقيق تطورها الاقتصادي بالاعتماد على العلم و التكنولوجيا.
-I دروس من تجارب العلم و التكنولوجيا في البلدان الاشتراكية سابقاً:
لقد كان للنظام الاشتراكي مكانة هامة في النظام الدولي العالمي, بحيث يمثل الكتلة الشرقية من العالم, بزعامة الاتحاد السوفياتي.
و سنحاول من خلال هذا الفصل التطرق إلى السياسة العلمية و التكنولوجية التي طبقت في الدول الاشتراكية بالتركيز على حالة الاتحاد السوفياتي, و حالة الصين.
-1-I السياسة العلمية و التكنولوجية في النظام الاشتراكي:
بالرغم من أن مجال البحث و التطوير إحتل مكانة هامة في التنظيم الصناعي لبلدان النظام الاشتراكي (يملك الاتحاد السوفياتي لوحده أكبر عدد من اليد العاملة العلمية في العالم), إلا أنّ السياسات العلمية المطبقة لم تساهم في خلق التكيف مع اقتصاديات هذه الدول و لا مع نموها, حتى أنّ النظرية الماركسية كانت تهدف إلى جعل العم قوة إنتاجية مباشرة.
و نظراً لكون مؤسسات الاقتصاد الاشتراكي لم تكون معرضة لضغوط السوق بسبب وجود حواجز للدخول و الخروج من تهديدات المنافسة لأنها مسيرة من طـرف وزارات الفـروع (Ministère de branche), فهي معرضة فقط لبعض القيود المالية.
و نظراً لندرة الموارد, فإنها تركز نشاطها في تموين المدخلات, و تحقيق هدفها من الإنتاج على المدى القصير لذلك فهي تلجأ إلى المركز (ديوان البرنامج, وزارات الفروع) لتزويدها بالمدخلات من أجل تحقيق مشاريع الاستثمار.
في ظل هذا المحيط التنظيمي و المؤسساتي, فإن إبداع طرق إنتاج و منتجات هو جدّ ضعيف, لقد أدت الدراسات التي أجريت على عدة دول اشتراكية إلى المدخلات التالية:
• إن حافز المؤسسات الإبتكارية هو تخفيض درجة الندرة في المواد؛
• المجال جدّ كبير بين الإبداعات المحلية و الإبتكار, و هذا ما يحدّ تطوير هذه الإبداعات في المخابر, والاقتصاد في الاقتصار فقط على إدخال تحسينات على المنتج.
• ضعف التحفيز المالي لتطوير الابتكار, و هذا بالرغم من توفر الباحثين بكثرة, كما أن حرية المؤسسة في اتخاذ القرار بشأن تطوير الإبداع هي محدودة جداً عن طريق التنظيم البيروقراطي؛
• اختيار المؤسسات في مجال الابتكار اقتصاديات السلم, و بالتالي فإنها تفضل الكمية على حساب التخصص و النوعية.
و بالرغم من أن هذه الدول لجأت في هذه الأخيرة إلى لامركزية نظام التسيير, و إلى الإستدانة الخارجية لتمويل الواردات من التكنولوجيا الغربية فإنها لم تحسن بصفة جذرية سلوك المؤسسات الاشتراكية.
التركيز على حالة الاتحاد السوفياتي:
تستمد السياسة العلمية في الاقتصاديات الاشتراكية على النموذج المتبع في الاتحاد السوفياتي, ليقلد بعد ذلك في باقي الدول الاشتراكية الأخرى وفرض على دول أخرى. تختلف هذه الساسة في تلك المتبعة في ظل اقتصاد السوق الذي يفترض أن تكون ضمن عملية التخطيط, مع تعيين الأشخاص المكلفون باختيار و ترجمة الأهداف و هم بصلة مباشرة بالتنظيمات المركزية, لتدرج بعد ذلك في المخطط الخماسي.
في نفس الوقت فإن تسيير البحث و التطوير يتم بطريقة مبعثرة, فنجد أن وزارات الفروع (أكثر من 50 وزارة في الاتحاد السوفياتي), تقوم بإدارة المؤسسات الكبرى التي تتوفر على مخابر خاصة بها, أما أكاديمية العلوم فهي تشتري على عدد من مخابر البحث الأساسي.
على المستوى الكلـي: هناك هيكلان يقومان بتنفيذ للسياسة العلمية:
- لجنة الدولة للتخطيط GOSPLAN ؛
- لجنة الدولة للعلم ة التكنولوجيا CEST.
GOSPLAN: مسؤولة عن تقديم و نشر التكنولوجيات الجديدة في الاقتصاد مع تحديد الهدف الذي يجب الوصول إليه, و حجم الاستثمارات الضرورية لتصنيعها. كما تقوم هذه اللجنة بالتعاون مع CEST بمراقبة توزيع الموارد على البحث و التطوير بين مختلف فروع الاقتصاد.
CEST: مسؤولة من التعليمات المتعلقة بالبرامج الرئيسية للبحث و التطوير خاصة تلك التي تستلزم التعاون بين مختلف الوزارات أو بين الوزارات و مخابر أكاديمية العلوم. بما أن CEST لا تملك مخابر خاصة بها, فإنها تراقب خدمات المعلومة التقنية, و تعين معاهد البحث المسؤولة عن المشاريع الكبرى للبحث و التطوير بين الفروع, و كذا اتفاقيات التعاون التكنولوجي بين المؤسسات و الحكومات الأجنبية.
هناك هيئة أخرى و هي اللجنة العسكرية الصناعية « VPK » التي تتبع مباشرة مجلس وزراء الاتحاد السوفياتي, تضمن الربط بين الاحتياجات العسكرية و تطوير مشاريع البحث و التطوير الضرورية لذلك.
و بصفة عامة نجد أن الاتحاد السوفياتي دفع مبالغ معتبرة على مشاريع البحث و التطوير (أكثر من %3 من الناتج الوطني الخام), نسبياً أكثر من الولايات المتحدة الأمريكية و اليابان, غير أن التنظيم الصناعي الاشتراكي, و غياب نظام التحفيز حال دون أن يكون لتلك المصاريف أثر.
-2-I حالة الصين:
مع ما يزيد عن مليار نسمة, لا يمكن للصين أن تلتحق بالقوى الكبرى إلا بتطوير التكنولوجيا, و الذي يستلزم وجود هياكل قاعدية كافية للبحث, وقد تمكنت الصين من تحقيق ذلك التطور في بعض المجالات: كغزو الفضاء, المجال النووي.
قامت لجنة الدولة للعلوم و التقنيات (CSST) بتحديد هدفها المتمثل في تنسيق العمل مع الإنتاج بتشجيع تطبيقاته و تحسيس المؤسسات بأهمية البحث, و لقد تجلى ذلك في كثرة المنتوجات الصينية البسيطة التي غزت الأسواق العالمية, لذلك قامت هذه اللجنة بوضع سلسلة من التسهيلات في الإطار الوطني أو الجهوي و حتى على مستوى البلديات.
تتبع الجامعات للجنة الدولية للتربية, التي تدير مباشرة 36 جامعة للدولة, و تراقب حوالي 300 جامعة موضوعة تحت سلطة وزارات أخرى, أو المناطق الجهوية أو ميدان مخبري, و لتسهيل التبادلات مع الخارج قامت CEST بإنشاء هيئة العلوم الطبيعية في الصين, التي تقود برامج البحث و التطوير, والتعاون بين الصناعات, الأكـاديميـات, و الجامعات على النمــوذج الأمريكـي NSF (National Science Fowidation), كما وضعت برنامجين:
الأول أطلق عليه اسم الشعـاع (étinalle): الذي حصل على تأييد من البنك العالمي و يضم 18 مليون صناعة صغيرة و متوسطة ريفية في الصين, أين يكون التطوير ضروري لتحديث الزراعة عن طريق امتصاص فائض اليد العاملة.
البرنامج الثاني: يطلق عليه اسم المصبـاح (Torche): و يتمثل في زيادة التعاون الدولي, فانطلاقاً من 1979 تشجع Deng Xiaoping)) التبادلات و تمثل ذلك في إرسال بعثات من الطلبة و المتربصين العلميين إلى الخارج, حيث قدر عددهم حوالي 100.000 في 1990, ثلث إلى الولايات المتحدة الأمريكية, و ثلث إلى أوروبا (4000 إلى فرنسا), لكن ضعف معدل الرجوع الملاحظ من طرف السلطات الصينية جعلها تعيد النظر في 1989 حول اتفاقيات التعاون و تخفيض عدد المستفيدين.
لذلك شجعت الجامعات و مراكز البحث الصينية خاصة أكاديمية العلوم لاستقبال المتربصين والأساتذة من الخارج.
-2-II حالة السويد:
تعتبر الصناعة السويدية من أكثر الصناعات الآلية (Automatisée) في العالم, فهي تحتل المرتبة الأولى في مجال الأنظمة المرنة (Systèmes Flexible), أما اليابان فيحتل الصدارة في مجال الآلية (Robotiques), و الولايات المتحدة الأمريكية في مجال التصميم بالكمبيوتر متبوعة بالسويد, المملكة
المتحدة, فرنسا و ألمانيا و بالتالي فإن السويد مرشحة لاحتلال وضع قوة في مجال استعمال كل التكنولوجيات.
الخصائص المميزة للنظام التكنولوجي السويدي في مجال تألية الصناعة:
أ- الهياكل القاعدية "الجامعات التكنولوجية":
تلعب جامعات التكنولوجيا في النظام التربوي دوراً أساسياً قي أسلوب خلق و نشر المعارف, فهي تهتم بميدان التكوين و بالبحث (هدف مزدوج). يوسع البحث الإمكانيات التكنولوجية, أما التكوين فإنه ينمي طاقة استغلال هذه الإمكانيات التكنولوجية, بحيث تعتبر نوعية المهندسين من أهم العوامل التي تحدد طاقة الإبداع, لذلك فقد اهتم النظام التربوي السويدي على تكوين الأفراد في مجال الآلية أكثر منه في البحث, إلى جانب التكوين فإن الجامعات التكنولوجية تهتم أيضاً بتكييف البحوث مع ما ينتظره المستعملون و هذا التوجه يسمح بتحسين كبير للمهندسين الجدد.
ب- شبكة المعارف و الكفاءات:
يتم تجميع و تثمين هذه المعارف و الكفاءات عن طريق عدة منشآت و هياكل نذكر أهمها:
- NUTEK: و هم أهم هيئة عمومية مسؤولة عن تنفيذ السياسة التكنولوجية.
- MEKAN: يلعب دورها في نشر التكنولوجيا و في صياغة السياسة التكنولوجية في السويد؛
- IVF (Institut Sudois de Recherche sur les Techniques de Production): المعهد السويدي للبحث في تقنيات الإنتاج, و هو معهد للبحث تابع للقطاع الخاص يسير من طرف meka وNUTEK, يضمن البحث, المتابعة, التكيف و نشر التكنولوجيات, يقوم ببحوث و تجارب لصالح المؤسسات.
هدف هذه المنظمات ليس فقط ضمان انتشار المعارف, لكن أيضاً تعويض الضعف في باقي مركبات النظام التكنولوجي, و خاصة النظام الاجتماعي.
ج- الموازنة المختصة للبحث و التطوير:
بموازنة تقدر بـ 37.4 مليار دولار, تحتل ألمانيا لوحدها 1/3 لإنفاق أوروبا على البحث والتطوير, و فرنسا 11 مليار المرتبة الثانية, متبوعة بالمملكة المتحدة, و إيطاليا تحقق هذه الدول الأربعة أكثر من %80 من الإنفاق الإجمالي للبحث في الإتحاد الأوروبي.
لكن إذا أنسبنا إنفاق كل دولة إلى الناتج الداخلي الخام فإن الفروق بين ألمانيا, فرنسا, و المملكة المتحدة تتوسع تكاد تكون جهود فرنسا متوافقة مع ألمانيا (%2.3 , %2.4) و نسبة أكبر في المملكة المتحدة (%2.2) و تصبح بذلك السويد الأولى في مجال الإنفاق على البحث بنسبة (%3.3) ثم تأتي الدول الأخرى, اليونان, اسبانيا, البرتغال (%1).
لقد توجهت معظم الدول المصنعة و كذا بعض الدول العالم الثالث تدريجياً نحو وضع سياسات جادة و فعالة للعلوم و للتكنولوجيا, ساعية من وراء ذلك إلى تحديد الأهداف الحيوية للتنمية الوطنية و تجنيد الطاقات اللازمة لذلك, عمومية كانت أو خاصة مع تصور ذكي لكيفية تسخير الموارد و توزيعها.
كما يعتبر تنفيذ هذه السياسات شرطاً أساسياً لوضع البرامج الوطنية الخاصة بإنتاج المعارف ذات التطبيقات الاقتصادية و الاجتماعية حيز التطبيق. لذا فإن البحث العلمي و التطوير التكنولوجي يمثلان بالنسبة لأي بلد استثمار بالغ الأهمية كونهما يغطيان كل ميادين النشاط الأساسي بدءاً بالبحث الأساسي مروراً بالبحث التطبيقي للوصول إلى أفكار مبتكرة تثمن بدورها و تتحول إلى مؤسسات إنتاجية.
يلاحظ أن جلّ الدول المصنعة خصصت أموالاً طائلة للاستثمار في أنشطة البحث العلمي والتطوير التكنولوجي نظرا للرهانات المختلفة التي تحملها في طياتها. و من هذه الرهانات يمكن ذكر:
الرهان الثقافي:
إن السلطة السياسية بدأت تتفطن منذ مدة طويلة إلى أن إشعاع دولة ما, يأتي عن طريق نشر ثقافتها الناتجة عن طاقاتها العلمية المنتجة للمعارف, ضف إلى ذلك إن الاعتراف الدولي بمستوى الإنتاج العلمي لأي دولة يعتبر من المعطيات التي لا يستهان بها, هذا ما جعل أغلبية الدول الصناعية تخصص نسبة تتراوح ما بين %20 - %10 من مصاريف البحث و التطوير لبحث الأساسي المنفذ على مستوى الجامعات و بعض الهيئات المتخصصة أين يجري تكوين الباحثين و إنتاج المعارف الأساسية.
الرهان الاقتصادي و الاجتماعي:
إن للعلم و التكنولوجيا اليوم, رهانات اقتصادياً و اجتماعياً, إذ أن اكتساب المعارف العلمية و التقنية و إدماجها في عمليات الإنتاج و أصبحت سلاحاً لخوض المنافسة الدولية.
في هذا الصدد, إن البحث كمصدر للابتكار, يسمح بإدخال منتوجات جديدة في السوق ذات أهمية للصالح العام, إذ كانت المؤسسات الإنتاجية العنصر المحرك لعملية إدماج العلم و التكنولوجيا في الأنشطة الصناعية, فإن تنافسيتها تعتبر قضية الحكومات في كل الدول و جزءاً لا يتجزأ من سياستها التي وضعت بواسطتها الآليات المناسبة لتسهيل تحويل نتائج البحث إلى الصناعة و لحث المؤسسات المنتجة على تخصيص أكبر نسبة ممكنة من رقم أعمالها للبحث و التطوير.
في هذا الشأن, لم تتوقف الحكومات عند هذا الحد بل شرعت في إعداد برامج خاصة لدعم القطاعات الطلائعية لمساعدة الطاقات الصناعية على التحكم في الميادين الأساسية كالتسيير الآلي لأساليب الإنتاج عن طريق الحاسوب و الليزر و الأنماط الصناعية ابتداءاً من الهندسة الكيميائية إلى التكنولوجيا الحيوية.
الرهان الاستراتيجي و العسكري:
لم يتوصل البحث العلمي إلى إقتناء نظام اجتماعي و سياسي مهم إلا بعد أن اكتشفت الدول المعاصرة طابعه العملياتي (غني بالتطبيقات) و إمكانية أن يكون حليفاً موضوعيا للسلطة السياسية.
و هكذا أصبح للعلم و التكنولوجيا رهاناً استراتيجياً, حيث يعتبر التحكم في بعض المعارف العلمية والتقنية الأساسية أمراً حيوياً بالنسبة لبعض الأمم و ذلك لضمان أدوات استقلاليتها كفترة الاتصال والتحكم في الطاقة و المواد الأولية أو وضع أساليب جديدة للإنتاج. و ما تجنيد بعض الدول لتنفيذ برامج البحث في الميدان النووي, الفضاء, الاتصال, و أنظمة الليزر...إلخ إلا دليلاً على ذلك.
للبحث العلمي رهان آخر ذوا أهمية كبيرة و هو الرهان العسكري المتعلق بكل ما له صلة بالدفاع وأمن الدولة المعاصرة كأنظمة التسليح و الاتصال و مراقبة الأرض عن طريق الأقمار الصناعية و التي تتطلب وضع برامج كبيرة تسخر لها هيئات بحث مدنية و عسكرية.
بعد هذا الموجز القصير عن أهمية العلم و التكنولوجيا في تحقيق الرفاه الاجتماعي و الاقتصادي لكل دولة, خصصنا هذا البحث لعرض تجارب إدارة العلم و التكنولوجيا في:
- البلدان الاشتراكية سابقاً؛
- البلدان الرأسمالية؛
- اليابان؛
- البلدان الصناعية الجديدة؛
- البلدان الفقيرة.
بهدف استخلاص الدرس التي تعتبر كمنهاج لأي دولة أرادت تحقيق تطورها الاقتصادي بالاعتماد على العلم و التكنولوجيا.
-I دروس من تجارب العلم و التكنولوجيا في البلدان الاشتراكية سابقاً:
لقد كان للنظام الاشتراكي مكانة هامة في النظام الدولي العالمي, بحيث يمثل الكتلة الشرقية من العالم, بزعامة الاتحاد السوفياتي.
و سنحاول من خلال هذا الفصل التطرق إلى السياسة العلمية و التكنولوجية التي طبقت في الدول الاشتراكية بالتركيز على حالة الاتحاد السوفياتي, و حالة الصين.
-1-I السياسة العلمية و التكنولوجية في النظام الاشتراكي:
بالرغم من أن مجال البحث و التطوير إحتل مكانة هامة في التنظيم الصناعي لبلدان النظام الاشتراكي (يملك الاتحاد السوفياتي لوحده أكبر عدد من اليد العاملة العلمية في العالم), إلا أنّ السياسات العلمية المطبقة لم تساهم في خلق التكيف مع اقتصاديات هذه الدول و لا مع نموها, حتى أنّ النظرية الماركسية كانت تهدف إلى جعل العم قوة إنتاجية مباشرة.
و نظراً لكون مؤسسات الاقتصاد الاشتراكي لم تكون معرضة لضغوط السوق بسبب وجود حواجز للدخول و الخروج من تهديدات المنافسة لأنها مسيرة من طـرف وزارات الفـروع (Ministère de branche), فهي معرضة فقط لبعض القيود المالية.
و نظراً لندرة الموارد, فإنها تركز نشاطها في تموين المدخلات, و تحقيق هدفها من الإنتاج على المدى القصير لذلك فهي تلجأ إلى المركز (ديوان البرنامج, وزارات الفروع) لتزويدها بالمدخلات من أجل تحقيق مشاريع الاستثمار.
في ظل هذا المحيط التنظيمي و المؤسساتي, فإن إبداع طرق إنتاج و منتجات هو جدّ ضعيف, لقد أدت الدراسات التي أجريت على عدة دول اشتراكية إلى المدخلات التالية:
• إن حافز المؤسسات الإبتكارية هو تخفيض درجة الندرة في المواد؛
• المجال جدّ كبير بين الإبداعات المحلية و الإبتكار, و هذا ما يحدّ تطوير هذه الإبداعات في المخابر, والاقتصاد في الاقتصار فقط على إدخال تحسينات على المنتج.
• ضعف التحفيز المالي لتطوير الابتكار, و هذا بالرغم من توفر الباحثين بكثرة, كما أن حرية المؤسسة في اتخاذ القرار بشأن تطوير الإبداع هي محدودة جداً عن طريق التنظيم البيروقراطي؛
• اختيار المؤسسات في مجال الابتكار اقتصاديات السلم, و بالتالي فإنها تفضل الكمية على حساب التخصص و النوعية.
و بالرغم من أن هذه الدول لجأت في هذه الأخيرة إلى لامركزية نظام التسيير, و إلى الإستدانة الخارجية لتمويل الواردات من التكنولوجيا الغربية فإنها لم تحسن بصفة جذرية سلوك المؤسسات الاشتراكية.
التركيز على حالة الاتحاد السوفياتي:
تستمد السياسة العلمية في الاقتصاديات الاشتراكية على النموذج المتبع في الاتحاد السوفياتي, ليقلد بعد ذلك في باقي الدول الاشتراكية الأخرى وفرض على دول أخرى. تختلف هذه الساسة في تلك المتبعة في ظل اقتصاد السوق الذي يفترض أن تكون ضمن عملية التخطيط, مع تعيين الأشخاص المكلفون باختيار و ترجمة الأهداف و هم بصلة مباشرة بالتنظيمات المركزية, لتدرج بعد ذلك في المخطط الخماسي.
في نفس الوقت فإن تسيير البحث و التطوير يتم بطريقة مبعثرة, فنجد أن وزارات الفروع (أكثر من 50 وزارة في الاتحاد السوفياتي), تقوم بإدارة المؤسسات الكبرى التي تتوفر على مخابر خاصة بها, أما أكاديمية العلوم فهي تشتري على عدد من مخابر البحث الأساسي.
على المستوى الكلـي: هناك هيكلان يقومان بتنفيذ للسياسة العلمية:
- لجنة الدولة للتخطيط GOSPLAN ؛
- لجنة الدولة للعلم ة التكنولوجيا CEST.
GOSPLAN: مسؤولة عن تقديم و نشر التكنولوجيات الجديدة في الاقتصاد مع تحديد الهدف الذي يجب الوصول إليه, و حجم الاستثمارات الضرورية لتصنيعها. كما تقوم هذه اللجنة بالتعاون مع CEST بمراقبة توزيع الموارد على البحث و التطوير بين مختلف فروع الاقتصاد.
CEST: مسؤولة من التعليمات المتعلقة بالبرامج الرئيسية للبحث و التطوير خاصة تلك التي تستلزم التعاون بين مختلف الوزارات أو بين الوزارات و مخابر أكاديمية العلوم. بما أن CEST لا تملك مخابر خاصة بها, فإنها تراقب خدمات المعلومة التقنية, و تعين معاهد البحث المسؤولة عن المشاريع الكبرى للبحث و التطوير بين الفروع, و كذا اتفاقيات التعاون التكنولوجي بين المؤسسات و الحكومات الأجنبية.
هناك هيئة أخرى و هي اللجنة العسكرية الصناعية « VPK » التي تتبع مباشرة مجلس وزراء الاتحاد السوفياتي, تضمن الربط بين الاحتياجات العسكرية و تطوير مشاريع البحث و التطوير الضرورية لذلك.
و بصفة عامة نجد أن الاتحاد السوفياتي دفع مبالغ معتبرة على مشاريع البحث و التطوير (أكثر من %3 من الناتج الوطني الخام), نسبياً أكثر من الولايات المتحدة الأمريكية و اليابان, غير أن التنظيم الصناعي الاشتراكي, و غياب نظام التحفيز حال دون أن يكون لتلك المصاريف أثر.
-2-I حالة الصين:
مع ما يزيد عن مليار نسمة, لا يمكن للصين أن تلتحق بالقوى الكبرى إلا بتطوير التكنولوجيا, و الذي يستلزم وجود هياكل قاعدية كافية للبحث, وقد تمكنت الصين من تحقيق ذلك التطور في بعض المجالات: كغزو الفضاء, المجال النووي.
قامت لجنة الدولة للعلوم و التقنيات (CSST) بتحديد هدفها المتمثل في تنسيق العمل مع الإنتاج بتشجيع تطبيقاته و تحسيس المؤسسات بأهمية البحث, و لقد تجلى ذلك في كثرة المنتوجات الصينية البسيطة التي غزت الأسواق العالمية, لذلك قامت هذه اللجنة بوضع سلسلة من التسهيلات في الإطار الوطني أو الجهوي و حتى على مستوى البلديات.
تتبع الجامعات للجنة الدولية للتربية, التي تدير مباشرة 36 جامعة للدولة, و تراقب حوالي 300 جامعة موضوعة تحت سلطة وزارات أخرى, أو المناطق الجهوية أو ميدان مخبري, و لتسهيل التبادلات مع الخارج قامت CEST بإنشاء هيئة العلوم الطبيعية في الصين, التي تقود برامج البحث و التطوير, والتعاون بين الصناعات, الأكـاديميـات, و الجامعات على النمــوذج الأمريكـي NSF (National Science Fowidation), كما وضعت برنامجين:
الأول أطلق عليه اسم الشعـاع (étinalle): الذي حصل على تأييد من البنك العالمي و يضم 18 مليون صناعة صغيرة و متوسطة ريفية في الصين, أين يكون التطوير ضروري لتحديث الزراعة عن طريق امتصاص فائض اليد العاملة.
البرنامج الثاني: يطلق عليه اسم المصبـاح (Torche): و يتمثل في زيادة التعاون الدولي, فانطلاقاً من 1979 تشجع Deng Xiaoping)) التبادلات و تمثل ذلك في إرسال بعثات من الطلبة و المتربصين العلميين إلى الخارج, حيث قدر عددهم حوالي 100.000 في 1990, ثلث إلى الولايات المتحدة الأمريكية, و ثلث إلى أوروبا (4000 إلى فرنسا), لكن ضعف معدل الرجوع الملاحظ من طرف السلطات الصينية جعلها تعيد النظر في 1989 حول اتفاقيات التعاون و تخفيض عدد المستفيدين.
لذلك شجعت الجامعات و مراكز البحث الصينية خاصة أكاديمية العلوم لاستقبال المتربصين والأساتذة من الخارج.
-2-II حالة السويد:
تعتبر الصناعة السويدية من أكثر الصناعات الآلية (Automatisée) في العالم, فهي تحتل المرتبة الأولى في مجال الأنظمة المرنة (Systèmes Flexible), أما اليابان فيحتل الصدارة في مجال الآلية (Robotiques), و الولايات المتحدة الأمريكية في مجال التصميم بالكمبيوتر متبوعة بالسويد, المملكة
المتحدة, فرنسا و ألمانيا و بالتالي فإن السويد مرشحة لاحتلال وضع قوة في مجال استعمال كل التكنولوجيات.
الخصائص المميزة للنظام التكنولوجي السويدي في مجال تألية الصناعة:
أ- الهياكل القاعدية "الجامعات التكنولوجية":
تلعب جامعات التكنولوجيا في النظام التربوي دوراً أساسياً قي أسلوب خلق و نشر المعارف, فهي تهتم بميدان التكوين و بالبحث (هدف مزدوج). يوسع البحث الإمكانيات التكنولوجية, أما التكوين فإنه ينمي طاقة استغلال هذه الإمكانيات التكنولوجية, بحيث تعتبر نوعية المهندسين من أهم العوامل التي تحدد طاقة الإبداع, لذلك فقد اهتم النظام التربوي السويدي على تكوين الأفراد في مجال الآلية أكثر منه في البحث, إلى جانب التكوين فإن الجامعات التكنولوجية تهتم أيضاً بتكييف البحوث مع ما ينتظره المستعملون و هذا التوجه يسمح بتحسين كبير للمهندسين الجدد.
ب- شبكة المعارف و الكفاءات:
يتم تجميع و تثمين هذه المعارف و الكفاءات عن طريق عدة منشآت و هياكل نذكر أهمها:
- NUTEK: و هم أهم هيئة عمومية مسؤولة عن تنفيذ السياسة التكنولوجية.
- MEKAN: يلعب دورها في نشر التكنولوجيا و في صياغة السياسة التكنولوجية في السويد؛
- IVF (Institut Sudois de Recherche sur les Techniques de Production): المعهد السويدي للبحث في تقنيات الإنتاج, و هو معهد للبحث تابع للقطاع الخاص يسير من طرف meka وNUTEK, يضمن البحث, المتابعة, التكيف و نشر التكنولوجيات, يقوم ببحوث و تجارب لصالح المؤسسات.
هدف هذه المنظمات ليس فقط ضمان انتشار المعارف, لكن أيضاً تعويض الضعف في باقي مركبات النظام التكنولوجي, و خاصة النظام الاجتماعي.
ج- الموازنة المختصة للبحث و التطوير:
بموازنة تقدر بـ 37.4 مليار دولار, تحتل ألمانيا لوحدها 1/3 لإنفاق أوروبا على البحث والتطوير, و فرنسا 11 مليار المرتبة الثانية, متبوعة بالمملكة المتحدة, و إيطاليا تحقق هذه الدول الأربعة أكثر من %80 من الإنفاق الإجمالي للبحث في الإتحاد الأوروبي.
لكن إذا أنسبنا إنفاق كل دولة إلى الناتج الداخلي الخام فإن الفروق بين ألمانيا, فرنسا, و المملكة المتحدة تتوسع تكاد تكون جهود فرنسا متوافقة مع ألمانيا (%2.3 , %2.4) و نسبة أكبر في المملكة المتحدة (%2.2) و تصبح بذلك السويد الأولى في مجال الإنفاق على البحث بنسبة (%3.3) ثم تأتي الدول الأخرى, اليونان, اسبانيا, البرتغال (%1).